يوماً بعد آخر ، كنت أراها تختفي ، تختفي لكنها دوماً ماثلةً أمامي ..
كأن شيء يحمل منجلاً خفياً يقلص مساحتها في حياتي ..
ينتشلها ببطء لا أشعر به .. كان هُناك شيءٌ بحجم الفتات داخل رأسها ، لا لون له ، لا شكل ، لا رائحة ، لا شيء سوى بضع ملي لترات من الذكرى ، و التي بدورها راحت تُنتهك من قبله دون أن تُقاوم ، لحظات من الإنتظار داخل حُجرة الطبيب أفقدتني صوابي ، كأنني أجلس على شيء لا أعرفه لأكتشف أنني كنت أتكئ على هواء ، فأقع!
كانت الصدمة جلية ،حينما سلمني الطبيب الأوراق لأقرها دون حتى أن يُكلف نفسه لشرحها ، و كُنت ما أزال في سنتي الأولى من عملي ، و لا أريد شيئاً يقطعني عنه ، فتكاسلت في القدوم لها ، أيام كثيرة مضت ، سنوات مرت دونما أي خبر عنها .. ما تزال على حالها .. أنا بالنسبة لها مجرد رجل لا تتعرف عليه .. رجل غريب عنها!!
كدت أن أنسى أمرها حتى اتصل الطبيب و أخبرني أنها تُريدني ..
لم أصدقه في بداية الأمر ، لكنه قال أنها طلبتني بالإسم ، إذن ها قد عادت الذكرى ... أخيراً .. لكنني كنت قد نسيت إحضار قلبي معي ، !
جلست أقابلها ، وجهها شاحب ، شفتاها مزرقتان بشدة ، كأنها تناضل كي تحيى !
و في داخلي ، ودتت لو أنها تفعل .. ربما حينها أستطيع إستحداث قلب جديد!!
كان أول ما نطقت به : لم أعد أعرفك يا عامر ؟!
أهذا ولدي الذي ربيته ؟!
أين هو ..؟ أين هو ولدي ..!؟
و كان جَلّ ما فعلته ، أن لم أجبها ، وليتها ظهري و خرجت .. ثم بقيت طوال تلك الليلة ، أنتحب .. !
في صباح اليوم الآخر، لم أعرفني !
أقنعت نفسي أنني ابتعدتُ عنها بسبب عملي ..
و تغيبت اسبوعاً آخر .. حتى أتى ذلك اليوم .. يومٌ ضباببي ، دخاني حتى أنني لم أستطع رؤية يدي .. بالكاد استطعت أن أخرج من مبنى الشركة التي أعمل بها بعد أن اندلع حريقٌ عملاق في الطابق الأرضي .. عندما خرجت .. رأيت أحد المارة يستلقي على جثة لرجل كبير بالسن ، يستصرخ و لا مجيب ، كان يقول أنه لم يعطه ما أعطاه ذلك الشيخ بعد ، أنه لم يوله إهتماماً كما ولاه عندما كان صغيراً .. و كأنه بكلماته تلك .. أحيا بعض عروق قلبي .... استيقظ ، فكان أول ما فعلته أن توجهت للمشفى الذي تقطن فيه والدتي .. لم أكن أريد سوى أن أقول أنني أحبها .. و أنني آسف !
عندما وصلت .. اتجهت نحو غرفتها فوراً .. لم يكن في بالي أي أحرف أو معاني .. لم أستنجد بأي شيء .. فقط وددت لو أنني أرى وجهها الشاحب و أبكي بعمق على فخذها .. لكنني لم أفعل شيئاً من هذا .. دخلت الحجرة ..
كانت تجلس على السرير .. و الطبيب المشرف على حالتها يقف أمام النافذة .. ما إن رآني حتى أشار لي بشيءٍ ما .. لم أعطه إهتماماً .. ركزت ناظري على وجهها الشاحب .. و سردت ما بخاطري كله .. عينان تحرقانني ، لكنني تمالكت نفسي ..
و صمت بعد دقائق من انفعالي .. انتظرتها لتقول شيئاً .. لتحييني ربما .. لترفعني للأعلى .. لأقول لأصدقائي أن لي أم .. لي أمٌ تتعرف عليّ!
لكنها عقدت ما بين حجباها ..
ثم قالت بغرابة : تذكرني بشخص ما .. هل أخطأت في العنوان يا بُني؟